تعتبر الأسواق عصب الحياة الإقتصادية ومن المرافق الحيوية الضرورية لسائر المجتمعات، إذ لا تنحصر أهميتها كونها مجرد فضاء تجاري أو مجال لتبادل السلع والخبرات بل إنها تعكس ذلك التفاعل الإجتماعي بين العناصر الإجتماعية المختلفة، فهي تقصد من قبل مختلف مكونات المجتمع، وتتجسد على شكل مجموعة بشرية إجتمعت في موقع لغرض البيع و الشراء وذلك من أجل إنماء علاقاتها التجارية وتبادل المصالح، وقد إستخدم الإنسان الأسواق منذ فجر التاريخ، وتطورت هذه الأخيرة مع مرور الزمن حتى أضحى لها قوانين وأعراف متبعة.
وعلى ذكر أهمية الأسواق ومنافعها عند عامة الناس، لجأنا إلى هذا البحث الذي يتناول فترة قيام أول سوق بزايو، هذه المنطقة التي تكتسي دراسة تاريخها أهمية بالغة في الكشف عن كثير من جوانب ماضيها العريق ومن تم تصحيح العديد من الروايات المختلفة التي تناقلتها الأجيال والتي لم تحمِها أحيانا من الإنزلاق نحو بعض المفاهيم المغلوطة.
عرفت منطقة زايو عبر مراحلها ومحطاتها التاريخية المختلفة، أسواقا وحركة تجارية لا بأس بها، إلا أننا نلاحظ رغم أهمية الموضوع فإنه لم يحظ بإلتفاتة علمية تذكر من قبل الباحثين والؤرخين بٱستثناء بعض الإشارات الشاحبة وغالبيتها على شكل روايات شفهية لا تشفي غليلنا المعرفي، إلا أنها تستحق التمحيص والتدقيق، لأنه لا يمكن منطقيا إنكار واقع تاريخي بمجرد غياب أي أثر مكتوب ومدون عنه، فالفراغ لم يكن في الواقع وإنما في الأدبيات٠
وقبل الخوض في تفاصيل الموضوع، يمكننا طرح السؤال التالي: هل هناك ما يثبت على أن السكان المحلين عرفوا ثقافة التسوق ومسألة البيع والشراء منذ القدم؟
أوجست مولييراس 1872/1893 الحركة التجارية بالمنطقة
إن أول من أشار إلى المنطقة على أنها عرفت رواجا تجاريا هو الباحث الإجتماعي السيد أوجست مولييراس، وهو يتحدث عن فترة ما بين1872م و1893 حيث قال في كتابه “المغرب المجهول”صفحة 179 نقلا عن لسان فرنسيي الجزائر:” إن الكبدانيين يأتون إلى أسواقنا الحدودية لبيع مواشيهم وصوفهم، لكن منذ إستقرار الإسبان بالجزر الجعفرية لم يعودوا ليشتروا منا أي شيء، مفضلين إقتناء ما يلزمهم بالقرب منهم وبثمن بخس، ويمنع عليهم بيع أي منتوج إلى جيرانهم بالجزر” ويضيف قائلا في صفحة 188 من نفس الكتاب” إن قوافل الدهرة المتوجهة إلى مليلية لشراء البنادق و البارود والخرطوشات والسكر والشاي والملابس القطنية، تمر عبر الحدود الشرقية لأولاد ستوت وتصل إلى تريفة ثم تتوجه بعد ذلك إلى القلعة القشتالية مرورا بأراضي كبدانة وقلعية، ويمكننا أن نتصور أهمية المعاملات التجارية من خلال العدد التقريبي للقوافل الذي يصل إلى مائة على الأقل سنويا، في حين تتراوح عدد المواشي ما بين 100 إلى 500 بالنسبة لكل قافلة…ألا تعتقدون بأن العديد من الأسواق الحرة الموزعة على حدودنا، قد توقف بعض القوافل أثناء مرورها؟ هل سيتردد الأهالي في إقتصاد مئات الكيلومترات لو وجدوا عندنا نفس الأثمان البخسة ونفس البضائع الموجودة عند الإسبان؟ إن طرح السؤال هو الطريق إلى حله إذ يجب علينا أن نبدأ لمواجهة المعقل القشتالي (مليلية) تجاريا وأن نشجع جيراننا المغاربة على إتباع طريق الشرق”.
ولقراءة ما جاء به السيد “مولييراس” مُدونا في كتابه نستخلص فكرة عامة تبين لنا أن المنطقة عرفت فعلا حركة تجارية وذلك من خلال القوافل التي كانت تجوب جميع النواحي لغرض البيع والشراء وعرض منتوجاتها، مما جعل فرنسا وإسبانيا تتنافسان على إحتواء هذا الرواج التجاري، ورغم طول مدة البحث والتي دامت21سنة لإكتشاف الريف لم يشر هذا الأخير إلى تواجد سوق داخل مجال زايو،ونعتقد ربما لكونها كانت مجرد أسواقا محلية صغيرة أو لقلة أهميتها مقارنة مع حجم الأسواق الكبرى التي كانت لا تبعد أنذاك عن المنطقة إلا بأميال قليلة، كسوق الأحد وسوق الجمعة بسلوان، ومن بين أهم الأسواق التي ذكرها الباحث وكانت ترتاد من قبل المتسوقين والتجارهي كالتالي:
لقبيلة “تريفة” سوقين، سوق الخميس وسوق الأحد ويقام الأول قرب قرية شراعة مرتين في الأسبوع، يوم الخميس والإثنين أما الثاني، كما يشير إليه إسمه فهو يقام يوم الأحد وكان يتواجد عند طرف قرية القلعة يشطره واد كيس إلى شطرين حيث يوجد نصف السوق بالأراضي المغربية والنصف الثاني بالأرض الفرنسية، ونظرا لقرب هذه الأسواق من التراب الجزائري الفرنسي فإن العملة الفرنسية الذهبية والفضية كانت تحضى بالأولوية مقارنة بالعملتين الإسبانية والمغربية الشريفة، ثم سوق الثلاثاء ببوعنقود والذي كان يوجد بالجنوب الشرقي لهذه القرية وسوق الجمعة ثمزّوجين وسوق الأحد والجمعة بأولاد ستوت شمال سلوان.
التموقع الجغرافي لسوق الأحد
أجمع الرواة والمؤرخون على أن منطقة زايو (المعروفة آنذاك ب إزخنينن)” عرفت ظهور أول سوق حسب التقديرات، في أواخر سنة1800م وهو تاريخ بروز وقيام أول منشأة تجارية بالمنطقة، حيث كان سوقا أسبوعيا ينعقد كل يوم أحد، وما ساعد على إزدهار النشاط التجاري في هذا الأخير وإتساع رقعة شهرته، هو موقعه ومميزاته، حيث تم وضع لبناته الأولى على بقعة أرضية ذات مساحة شاسعة، وقد تم إختيار هذا الموقع لأهميته الجغرافية، إذ أنه كان يعد كنقطة مركزية تربط جميع الدواوير والأسواق المحيطة به، وأن جميع الطرق المؤدية إلى الأسواق المجاورة تمر عبر هذا الأخير، كالذهاب إلى سوق البرج برأس كبدانة أو سوق “بوعنقود” ناحية أركمان أو إلى أسواق سلوان ومليلية ولم تشكل المسالك عبئا أو حاجزا للذين يزاولون مهنة التجارة وهم جائلين، حاملين سلعهم على البغال والحمير، كلها عوامل سهلت للجميع المجيء إلى السوق لتبادل السلع والخبرات، وأضحى بعد ذلك موقعا مشهورا مجددا يعتاد الناس عليه كل يوم أحد، وأطلق عليه آنذاك إسم “سوق الأحد” أو “سوق تاقليحت” (فرحية حاليا)٠
أهم الحرف والمنتوجات
من بين أهم الحِرف التي كانت تزاول داخل السوق: صناعة الحدادة “تامزيلت” وتتمثل في صنع سروج البغال وإعادة تركيبها…،وبيع نوع من الصناديق الخشبية غالبية مقتنيها المقبلين على الزواج وتُباع من طرف مختص يدعى ” أنْشّال”…إلى جانب ذلك عرف السوق تجارة الحلفة التي كانت تصنع منها النعال والغرابيل لصناعة الكسكاس والحصائر المسطحة”إجرثال” وهي منتوجات محلية، لعبت المرأة دورا كبيرا في إنتاجها وتسويقها، ويتم بيع الدواب والمواشي والحبوب كالقمح والشعير، ولم تكن حبوب ما يسمى “القمح الطري”أو “فرينا” معروفة لدى المغاربة قاطبة ومنعدمة تماما من الأسواق، ويتم عرض بعض الخضر التي كانت في حقيقة الأمر غير متوفرة بالقدر الكافي ويعزى ذلك إلى كون أهالي المنطقة إعتمدوا في حياتهم المعيشية على موردان أساسيان وهما ثروتهم الرعوية والحلفة، إلا أنهم كانوا يقتنون كل ما هو ضروري من مواد غذائية أساسية من مليلية أو مدينة نيمور على الحدود الجزائرية، من سكر وشاي وبترول وسكاكين…إلخ وكان البيع والشراء في هاتين المدينتين يتم نقدا عكس سوق”الأحد” قد عرف تجارة كانت تتم بواسطة المقايظة حيث يتم تبادل السلع بدون مال، ولم يعرف السوق ما يعرف بنظام الرقابة على الأسواق والتي تتم عن طريق المحتسب وأعوانه من الأمناء بالشكل الذي نراه اليوم بالأسواق الحديثة٠
أهم المنشآت داخل السوق
ومن أهم المنشآت التي كانت داخل سوق الأحد، سبعة دكاكين وأماكن مخصصة لنصب الخيام للتجار إلى جانب خيمة خاصة ب”القايد” والذي بدوره كان يحضر هذا اليوم للبث في المنازعات والصراعات القائمة بين السكان والفصل بينهم٠
أهم العملات المتداولة
بحكم التبادل التجاري الذي كان قائما آنذاك بين السكان المحليين ومليلية من جهة وبين السكان المحليين ومدينة نيمور الجزائرية الفرنسية، كانت البسيطة الإسبانية والفرنك الفرنسي أهم العملات المتداولة لدى السكان إضافة إلى عملة الريال الحسني المعروف حينها ب “أحسني” والذي بدأ التداول به عام 1881 في محاولة لتقويم النظام المالي النقدي لمنافسة العملات الإسبانية والفرنسية.
دخول الإسبان وتحويل سوق الأحد الى زايو المركز
في سنة 1909 م، بدأت النواة الأولى لمدينة زايو وذلك على إثر دخول الإسبان للمنطقة، ثم بدأت في رصد كل التحركات والتجمعات السكانية وفطِنت لأهمية الأسواق إذ إعتبرت كل ما يحدث داخلها بمثابة مؤشر يعكس لها مدى إستقرار أو إضطراب الأحوال، وإنتظام سير الحركة التجارية بها كان مرهونا أولا وأخيرا بالحالة الإجتماعية والسياسية للمنطقة، لذا أصدرت الحماية بموافقة المخزن مرسوما يقضي بالإستغناء عن سوق الأحد من أجل تحويل رواجه وحركته التجارية إلى سوق زايو لتقويته إقتصاديا داخل المعسكر الذي أقامته على مجال موسع بزايو المركز ثم تسريع وتيرة النمو والرواج التجاري لدى المستوطنين الجدد.وفي سنة1912م تم توسيع مجال الإستقرار وبدأت النواة الأولى تعرف توسعا بزايو نظرا لنمو نشاطها الإقتصادي، وإتخاذها مقر قرار لقلعة عسكرية، كما إختارتها إسبانيا ” العاصمة الشرقية ” لها وإحتوت على بعض المرافق التي أهلتها لتكون حضرية أنذاك.إلا أن أسواق زايو المركز الإثنين والخميس لم يعرفا إضطرابات تؤدي إلى عرقلة حركة التجارة، لكونها لم تكن هناك منافسة شديدة على الساحة من قبل السكان المحليين الذين كانو يهتمون بالفلاحة والرعي بالدرجة الأولى، مما جعل اليهود والإسبان يتحكمون في الأسعار وبروز دكاكين وصناع أجانب إلى جانب ظهور تجارة الجملة والمعروفة أنذاك بإسم ” الباصكو” أي شراء كل غلة وإنتاج من الحلفة والدوم بأبخس الأثمنة، حولت أبناء المنطقة إلى مجرد زبناء لهم، لكن بعد نهج الإسبان سياسة الإستنزاف للثروات التي كانت تعد مصدرا معيشيا للأهالي،وذلك لتغطية نفقاتها الحربية جراء هزائمها في الريف الغربي وظهور سلسلة أعوام من القحط والجفاف التي توالت على المنطقة، كانت هي أسباب ألإضطرابات والعوامل التي أثرت بشكل كبير على سير الحركة التجارية بزايو في شكله العام أنذاك، كغلاء الأسعار وفقدان البضاعة المروجة٠
Mouliéras, Auguste (1855-1931) – Le Maroc inconnu
روايات شفوية